بيان ابن القيم لظاهر الإيمان وباطنه
ويقول في كتاب الفوائد: (الإيمان له ظاهر وباطن) فعلاقة الظاهر بالباطن مهمة جداً (وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر بلا باطن له وإن حقن به الدماء وعصم به المال والذرية)، فالإيمان الظاهر نفعه وفائدته في الدنيا فقط؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله )، فالسرائر عند الله، وفي الحديث الآخر: ( من صلَى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما لنا وعليه ما علينا )، فالأحكام الظاهرة في المناكحة وفي المواريث وفي المعاملة بين الناس نعامله فيها معاملة المسلم، لكن هذا وإن نفع في الدنيا لا ينفع عند الله تبارك وتعالى ما لم يكن عن إيمان صادق وإخلاص في القلب، فلا ينفع الظاهر الذي لا باطن له عند الله تبارك وتعالى. قال: (ولا يجزئ باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذر لعجزٍ أو إكراه وخوف هلاك)، بمعنى أن من قال: أنا مؤمن، وقلبي -والحمد لله- ممتلئ بالإيمان، وأنا مقر بما جاء من عند الله فلابد له من أن يأتي بالعمل الظاهر، ويسقط العمل الظاهر في هذه الحالات: الخوف أو الإكراه أو العجز، أما في غير ذلك فلا بد من أن يأتي به العبد ليكون مؤمناً.يقول: (فتخلف العمل ظاهراً مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان، ونقصه دليل نقصه، وقوته دليل قوته)، يعني: أن المعيار هو العمل الظاهر، ولهذا نجد في الأمثلة التي ضربها الله تبارك وتعالى للإيمان في القرآن أن المقصود بها الدين أصوله وفروعه، كقول الله تبارك وتعالى: (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ))[إبراهيم:24-25]، فنفهم من هذا المثال حقيقة الإيمان وحقيقة تلازم الظاهر والباطن، وبهذا يظهر فساد من خالف أقوال أهل السنة والجماعة ، فالماء الذي يمد الشجرة والمطر الذي ينزل من السماء فيغذي به الله تبارك وتعالى الأرض ويخرج به الأشجار والزروع حدائق ذات بهجة ألواناً شتى شبيهه القرآن منذ أنزل الله تبارك وتعالى الوحي من السماء وجاء النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة، فتسقى شجرة الإيمان بالقرآن وبالسنة وبالعلم بما أنزل الله تبارك وتعالى، فتنبت الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، فهي عالية لأنه كلما ثبتت الجذور وقويت وامتدت إلى المنابع في الأرض علا ظاهرها وعلت أغصانها وامتدت فروعها في السماء يميناً ويساراً وإلى العلو حتى تكبر وتنمو، فيتفاضل الشجر -كما يرى الناس جميعاً- في هذا تفاضلاً كثيراً، فالشجر من جنس واحد يتفاضل، فبعضه ينمو ويكبر ويشتد لأن جذوره متأصلة، فهذا المثال مثال الإيمان، فالأعمال الظاهرة هي الجذع والأغصان، والأوراق والفروع الصغيرة هي كمالات الإيمان، وشهادة أن لا إله إلا الله حقاً والإيمان الباطن حقاً وما في القلب من المحبة واليقين والإخلاص والنية الصادقة والانقياد كالجذور تحت الأرض، فالإنسان لا يرى جذور الشجر كما هو معلوم، وإنما يرى الشجرة من خلال الظاهر. والعجيب أن كثيراً من الناس اليوم يقال له: إن إيمانك يتمثل في محافظتك على ما أمر الله به من صلاة الجماعة، وفي مظهرك وتمسكك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أخلاقك وفي كلامك وفي ألفاظك وفي تعاملك، وفي سائر الأمور الظاهرة من الواجبات والمستحبات، فأين هذا في حياتك؟! فإنه يجيب ويقول: الإيمان في القلب فقط. فالمنافقون يحسبون أنهم على شيء، ويستدلون على ذلك بهذا الشيء الظاهر الذي لا ثمرة له، ولا طعم له ولا رائحة؛ لأنه ليس له في الحقيقة صفة الإيمان. أما المؤمن الحق فإنه كلما ازداد ارتواءً من هذا الدين ومن التقوى ترعرعت الشجرة فأنبتت من كل زوجٍ بهيج، واستظل في ظلالها وأخذ من طيب ثمارها، وبقيت كذلك حتى يأذن الله تبارك وتعالى. فالمقصود أن هذا المثال الذي يوضح علاقة الظاهر بالباطن يدحض الادعاء بوجود باطن لا ظاهر له، فهذا ادعاء مخالف للحقيقة إلا في حالة عجز أو إكراه، فهذه الحالة مثالها مثال شجرة بدأت في النمو، غير أن شخصاً أتى بحجر كبير فوضعه فوقها، فهو الذي أعاقها وهو الذي منعها من النمو، فإذا أزال الحجر نبتت وخرجت، فهذا عامل خارجي، لكن الشجرة في الحقيقة موجودة، وكذلك الإيمان في حالة العجز أو الخوف أو الإكراه.فـأهل السنة والجماعة عندما قالوا: الإيمان قول وعمل عبروا بعبارة دقيقة وصائبة وصحيحة ومتسقة مع الفطرة والعقل السليم، فالإنسان -في الحقيقة- هو ظاهر وباطن، والإيمان إنما هو ظاهر وباطن، فالباطن قول القلب وعمله، والظاهر هو قول اللسان وعمل الجوارح، والإنسان في الحقيقة هو جسد وقلب، فالقلب فيه الإيمان الباطن، والجسد -ومنه اللسان- فيه الأعمال الظاهرة، فهكذا يتضح لنا ذلك مع هذا المثال البشري. فتشهد الشواهد الفطرية والحسية والواقعية بأن الدين وأن الإيمان هو قول وعمل، وأنه ظاهر وباطن، ولا يمكن أن ينفصل أحدهما عن الآخر، وعلى هذا تكون العبارة حقاً ولا غبار عليها ولا مخالف لها من السلف، حيث إنها منقولة عنهم في كلام البخاري رحمه الله وغيره، منقولة عن الأثبات الثقات، فـالبخاري رحمه الله نقلها عن أكثر من ألف شيخ، فكيف بغيره؟! ثم إنه إذا قيل: إن هذه العبارة قد تفهم خطأ فيظن أن القول والعمل هو الظاهر فقط، فالرد على ذلك أن الظاهر والباطن متلازمان، وأي فهم خاطئ يرد على هذه العبارة يمكن أن يرد على العبارة الثلاثية، أو على غيرها من العبارات.